حتى لا يقول مستقبل التاريخ.. كان ياما كان عراق!!..
كان يا ما كان في جديد الزمان وحاضر العصر والأوان..
كان الفرعون القزم حفيد الصهيون الأكبر الشهير يلوب بغيظ حانق في مسكنه المسروق بين أكداس سجلات أوراق مخططاته التي ورث الشطر الأعظم منها عن أجداده منذ ما يزيد على خمسين سنة من العمل الإجرامي المحنك. .
توقف لحظة ليشعل سيجاره الضخم القاتم وبدأ يجتذب أنفاسا طويلة منه بعين نصف مغمضة، ثم بدأ يزفر الدخان ببطء عنيف يفصح عن التهاب نفسي داخلي لا حد له. . ثم أسرع بتوتر ظاهر نحو منظاره الضخم المكبر المثبت على نافذة نصف مفتوحة، والذي صنعه وركبه وثبته على أكثر المواقع حساسية للتجسس السري على جميع المساكن المجاورة وسكانها، وعمد إلى توجيهه في تلك اللحظة نحو بيت عتيق الأصالة يقع على ضفة نهرين ومزارع خصبة، لطالما كان الفرعون حفيد الصهيون الأكبر يطمع بامتلاكه لتوسيع مسكنه المسروق به من قبل عشرات السنين. . ولطالما جبه بالطرد والفشل والصفعات المعنوية الموجعة على مدى طوال تلك السنين، لكن طموحه ذاك لم تخالجه ذرة من يأس. . وعاد يحاول من جديد. .
وما أن اجتذب الفرعون نفسا عميقا من سيجارته بينما بصره مثبت على عدسة منظاره المكبر المسلطة على بقعة حساسة داخل ذاك المنزل البديع حتى انتابته نوبة سعال تدفقت مفعمة بغيظ ملتهب، ثم بصق و ألقى سيجاره الضخم على الأرض من فوره ليسحقه بحذائه الممزق بقسوة حاقدة انقطع نظيرها وهو يتمتم بحنق: (مستحيل. . هذا غير ممكن. . غير ممكن. . إنني أبذل أقصى جهودي على مدى عقود طويلة، ولم أبلغ ما أشتهيه من هذا المسكن حتى اليوم. . لابد من إضفاء تحسينات على هذا المخطط. . نعم. . لابد). . ثم عاود إدارة منظاره الخبيث الذي ليس لسواه مثله نحو بقعة أخرى من بقاع المنزل وعاود صب ثاقب نظراته على الدار وسكانه في غفلة منهم. .
كان اسم ذاك المنزل العريق الناطق بنيانه برفيع الأصالة هو (العراق). . وكانت تسكن حجراته أسر من أعراق وديانات ومذاهب مختلفة، إلا أنهم كانوا مع هذا على وئام أخوي لا يؤذيه إلا ما يتطفل على نسيجه من تدخل أعداء العراق وأهله ممن يتوقون للنيل منه بتمزيق تآلف وحدة أبنائه. . وكان من سوء طالع غرباء اللصوص أنهم مهما تمكنوا من اختراق عاطفة عدد من سكانه بتفاقم خبث وسائلهم السرية صمدت أمام مخططاتهم فئات ذات مبادئ يستحيل اختراق عاطفتها باستثارة عداوتها ضد الباقين لفرط حبهم للمكان و إخوتهم من سكانه. . ولطالما أريقت دماء أجيال منهم على أرضه، لكن تلك الدماء التي لا يموت قتلاها أبدا تنتقم لنفسها في كل مرة. . فتنقلب مخططات غرباء اللصوص على أعقابها بهشاشة ذكريات نجاحاتها التي انتكست عليها فشلا يهذي بذكريات الخزي المضرج بالفضائح. .
وذات يوم. . وبينما عدسة منظار فرعون الصهاينة مسلطة على حجرات الجناح الشمالي من البنيان العظيم، ومضت عيناه ببريق الظفر، فأسرع ليطل بجميع رأسه من النافذة بلهفة مجنونة الحبور، ثم عاود التحديق إلى ما كان قد رآه في اللحظة الماضية عبر عدسة منظاره ليتأكد من حقيقة ما رآه. . وما أن أدرك ذلك حتى قفز قفزة الظافر السعيد وهو يهتف: (وجدتها. . أخيرا وجدتها. . أين أنت يا جدي لترى ما سأفعل. .). . ثم هرع نحو جهاز الهاتف ليصرخ عبر سماعته بلهفة لاهثة بعد أن نقر زرا من أزراره: (أحضرهم لي على الفور. . نعم، هم بعينهم دون سواهم. . لاتتأخر. . فلا وقت لدينا). .
ثم عاود التحديق نحو ما لا يراه سواه. . . عبر عدسة منظاره المكبر. .
كان فرعون الصهاينة يحلم بثغرة عظمى يخترق بها جدران العراق فيتمكن بها من التسلل إلى أراضيه جميعا. . وهاهو يرى أخيرا تلك الثغرة النامية بالعنصرية و العصبية العرقية، و المغذاة بسماد الطمع تتفاقم دون حياء عبر فئة يشي بها سلوكها ذو التطلعات الانفصالية في الجناح الشمالي من العراق. .
ولابد لمصالحه السرية الخبيثة من استغلال أطماع هؤلاء لتكون قنطرة تسلله إلى الجناح الشمالي من المبنى أولا. . ثم يخترق بذلك أقرب أهم حجرة في البناء العراقي إلى ذاك الجناح، والتي يسميها أهلها والناس. . (كركوك). .
وإذ ذاك ينطلق بعدوى إجرام مخططاته لتخترق خلايا البنيان العراقي كله بداء احتلال باطن ظاهر لا شفاء منه. . فيهتف المستقبل حين يغدو حاضرا كسيرا بحسرة: (كان ياما كان. . عراق!!). .
وقبل ذلك. . لابد من اغتيال أصوات أفراد الأسرة التركمانية المقيمة في (كركوك) بمعظمها – مع أفراد قليلة من أسر أعراق أخرى في البقعة نفسها – لئلا تستحيل صفارات إنذار تنبه المبنى العراقي كله لاقتراب ميلاد جريمة اللصوصية بآثامها المضرجة بآثار فضائح الخيانات الوطنية. . وكان ذلك بندا من أوائل بنود اتفاقية التعاون المشترك التي باركها الشيطان. . بين فرعون الصهاينة وأشياع إجرامه من العملاء. .
ألقى فرعون الصهاينة بجسده على مقعده الضخم مسترخيا بعد أن أتم اتفاقيته مع ذلك الكنز الشيطاني الذي اكتشفه بعد استقصاء طويل من عملاء الجناح الشمالي من المبنى العراقي، ووضع كفيه خلف رأسه بينما رجلاه ممدودتان فوق مكتبه بين أكداس مخططاته التي لم يعل الغبار أيا منه لفرط تكرار مراجعته لها بين الحين والحين، وأغمض عينيه نصف إغماضة، بينما تراءى فوق شفتيه شبح ميلاد ابتسامة. . وبدأ يفكر بإنجازاته المستقبلية. .
وعندما وصل بتفكيره إلى تعاونه مع أولئك العملاء اتسعت ابتسامته الساخرة المشوبة بالاستخفاف. . وقال في نفسه:
(يا لهم من أطفال على مضمار فن (تبادل المصالح المشتركة). . لقد جعلهم طموحهم الانفصالي المجنون يدركون هذا المبدأ في وقت مبكر. . المبدأ الذي يقوم لدينا على فكرة: (أعطني هذا مقابل أن أعطيك ذاك. .) فصاروا يستغلون به عاطفة الناس في مواقف كثيرة. . منها استغلالهم إياه لاجتذاب جماعات من قرابتهم للسكن في (كركوك) بوعود أساسها الكذب. . ياللسخرية!!. . إنهم يظنون أنهم سيستفيدون مني كي يحظوا بتوسيع مسكنهم كذلك بهذا المبدأ. . ذاك الطموح الطامع المجنون أعمى بصيرة أذهانهم قبل سلوكهم فغفلوا عن أن مبدئي في فن (تبادل المصالح المشتركة)هو: (أعطني كل هذا. . مقابل أن أعطيك قدرا شحيحا من ذاك). . هذا إن لم أتمكن من الوصول إلى تحقيق مبدأ: (أعطني كل هذا. . واحلم فقط أنني سأعطيك ذات يوم شيئا من ذاك). . سيدركون ذلك ذات يوم بأنفسهم حين أنال منهم جميع ما أريد. . وألقي لهم ببعض فتات الفتات لا أكثر. .). .
نهض فرعون الصهاينة ليطل هذه المرة نحو المبنى العراقي من خلال النافذة مباشرة. . فأصوات الصراخ ولهب الشظايا المنبعثة من (كركوك) وما حولها نحو الخارج لم يعد معها بحاجة للاستعانة بمنظاره المكبر. . ورغم هذا لازال كثير من سكان المبنى يسمعونها ولا ينصتون لها. . ويرونها دون أن يبصروها. .
وما زال فرعون الصهاينة بعد نكسات فشله السابق المتكرر أمام رسوخ البنيان العراقي في وجه ماضي مخططاته على مدى عقود مضت غير واثق من نجاحه المستقبلي. . لكن دنس طموحاته بقيت تداعب أحلام مخططاته، آملا أن يحظى ب(كركوك). . وما حولها. . ثم ما حول ما حولها. . ثم. . كان يا ما كان عراق!!!!. .
ترى كيف ستكون نهاية القصة لشعب يأبى أن يقول الزمن: كان يا ما كان. . . . عراق؟!. .